حوار حول السمعيات والإجماع في الكلام الأشعريّ
حوار هادئ حول السمعيات والإجماع في الكلام
الأشعريّ:
حاورت السيد الكريم الناجي لمين (أستاذ كرسي جوهرة التوحيد
المتخصص في الفقه الإسلاميّّ!) في مسألة موضع الإجماع ضمن أدلة المتكلمين (هنا)؛ ولكونِه، فيما يبدو
ظاهرًا وبسبب عدم تخصصه، لا يتصور المسألة جيّدًا ولا يحسن تقريرها وفق طريقة الأشعريّة -رضي الله
عنهم-، فضلا عن عدّه ما أقوله ’خطيرًا‘ (كذَا)؛ بدت لي كتابة قولٍ، على عجلٍ، لما أوقفَ النقاش بعد ردّ له تعذر الجواب عنه
لأسباب تقنية تعود إلى إيقافه الصداقة الافتراضية في حسابه؛ لذا أحببت تقرير
المسألة هنا، وفي المدونة، على أمل أن يسع صدره النقاش بعيدًا عن حوارات وقوف
الحمار في العقبة ونزوله عنها خائبًا!، على أن مسألتنا هي ما منزلة السمعيات في
الكلام الأشعريّ؟ ومتى يكون الإجماع أصلا؟ وعلى أي معنى تحمل أصليته؟ وهل يكون
أصلا من وجه وفرعا من وجه؟ وما منزلة أصليته من أصل العقل؟:
...
فليعلم، بادئًا، أنَّ هاهنا أمرًا هو المعلوم السمعيّ، المعلوم من
الدين بالضرورة أو غير المعلوم من الدين بالضرورة كاعتقاد وجوب صلاة الفريضة وصحة
التوبة ونظائرهما من مسائل التشريع والأخبار وفق ما ينقل إمام الحرمين (ت. 478هـ)
في الإرشاد؛ لا يخلو؛ نعني ذلك المعلوم السمعيَّ، على تخريجٍ عقليّ حاصر،
من أن يكون إمَّا واجبا عقلاً أو مستحيلاً عقلا أو ممكنًا عقلاً. فإن كان الأول
فهو ممّا توارد الشرع والعقل على إثباته، رغم كون العقل مستقلا في تعيين وجوب ذلك
المعلوم، فهذا، إذن، قسم يدرك بمحض العقل وتعيينه لأنه واجبٌ، فإذا فرضنَا، والأمر
كذلك، ثبوتَه بغير الشرع لكان العقلُ على حياله كافيًا فيه.
وأما إن فرض ذلك المعلوم السمعيّ مستحيلاً فهو ما
يقول فيه الإمام أبو حامد الغزاليّ (ت. 505هـ): «وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب
فيه تأويل ما ورد السمع به» (الاقتصاد 2019: ص. 367)، وهو المقرّر في
المذهب الأشعريّ فلا نطيل بتفاصيله، إلا أنَّ الغزاليّ شرط عند عدم إدراك حكم
العقل في المعلوم السمعيّ، حالةَ التوقفِ، ضرورةَ «انفكاك العقل عن القضاء
بالإحالة» على ذلك السمعي؛ فلا يبقى، حالتئذ، إلا أن يكون جائزًا أو واجبًا -وقد
مرَّ-، لذَا فسّر الغزاليّ التوقفَ بـ«عدم معرفة الإحالة»، وأنت خبير بأن التوقفَ غير
التجويز لأن الأول عدم الحكم والثاني حكم بالجواز وليس هذا ذاك (ص. 367-68). وأيا
كان فقد شرط المتكلمون لتلقي السمعيات بالقبول عدمَ كونها محالةً عقلا، يقول الغزالي
في المستصفَى:
«مما [أي من السمعيات] لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي
أيضا باستحالته. فقد يرد الشارع بما يقصّر العقل عن الاستقلال بإدراكه إذ لا
يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببا للسعادة في الآخرة، وكون المعصية سببا
للشقاوة، لكنه لا يقضي باستحالته أيضا» (المستصفى 2015: ج. 1 37).
ومن المعلوم سلفًا أنَّ حكميْ الوجوب والاستحالة
مشتركان في مطلق الضرورة، ضرورةِ الثبوت وضرورةِ الانتفاء، وهذان، في كل
الأحوال يستقل العقل بإدراكهما؛ لكن ما يدخله شيءٌ من التشويش هو الإمكان لأنه
يشتبه على البعض فيحسبه تجهيلاً أو عدم حكم؛ إذ من المقرّر لدى المتكلمينَ، كما قرّر
في متون الفلسفة الإسلاميّة أيضا، أن العقل مستقلّ، أيضا، بإدراك نفس الجواز والإمكان
مادام حكمًا بمحض العقل يقتضي أن تكون حقيقة أمر ما، بما هي هي، قابلةً لتواردِ جهات
عليها، لكن العقل، فوق هذا، لا يعيّن إحدى جهات الجائز عند عدم أمر خارجيّ عن نفس ذلك
الجائز الممكن، وهو المقتضي لجهة من جهاتِه.
فأما إذا كان ذلك المعلوم السمعيّ جائزا عقلا، وهو
القسم الثالث، فالشارع معيّن، على هذا، لجهة من جهات الجواز، على أن وظيفة المتكلم
إثبات أصلِ الجواز أولا وبالأصالة، ومن ثمة يكون كل حكم سمعيّ مفرعا عن هذا الأصل
العقليّ، الذي يتمحَّضُ العقل بإدراكه في مستوى التجويز. يقول الغزاليّ: «أما
المعلوم بمجرد السمع فيُخصِّص أحدَ الجائزين بالوقوع» (ص. 365-66).
ولنعد الآن إلى الإجماع فنقول: لا شكّ أن الإجماع
من جملة الأدلة الشرعية الإجمالية، ولا شك أن الأدلة الشرعية تدل المخاطبَ المكلّف
على مراد الشارع في حكم معلوم ما، فيكون ذلك خطابا شرعيًّا له بأن حكم كذا هو كذا،
وصورة هذا تنبئك عن تلقٍ من مشرّعٍ لشرع ما. ولئن قُرّر أن خطاب الشارع يرجع إلى
كلام الله النفسيّ الأزلي؛ فإنه من المقرّر في الأصلين، كذلك، أن أي تشريع، بمعنى الأمر المشرَّع، يثبت
بأدلة ذلك الخطاب يتوقف على ثبوت أصل الشرع وثبوتِ كون الشارع متكلما. يقول المتكلم
أبو مهدي السكتاني (ت. 1061هـ): «أقول: مما يشمله [قول الرسول المخبر] الإجماع.
فإن قلت: كيف يشمله والإجماع ليس من قول الرسول وإنما هو قول المجتهدين؟ قلت: هو
قول الرسل أيضا باعتبار أصله ومستنده، إذ لا بد له من مستند في الشرع» (الحاشية
أم البراهين: ص. 427. حاشية الدسوقي على أم البراهين: ص. 170). يقول
الغزالي في الاقتصاد:
«أما المعلوم بدليل العقل دون الشرع فهو حدث
العالم، ووجود المحدث وقدرته وعلمه وإرادته، فإن كل ذلك ما لم يثبت لا يثبت الشرع،
إذ الشرع ينبني على الكلام، فإن لم يثبت كلام النفس لم يثبت الشرع، فكل ما يتقدم
في الرتبة على كلام النفس يستحيل إثباته بكلام النفس وما يستند إليه، ونفس الكلام
أيضا فيما اخترناه لا يمكن إثباته بالشرع». (الاقتصاد، 365-67).
وأنت خبير، بعد هذا النقل الطويل، أين موقع كل
دلائل الشرع، والتي منها الإجماع، من دلائل العقل الكلامية فلا شرع قبل أصل
الحقائق العقلية، ولا إجماع قبل ثبوت أن ثمة مشرّعا، ولا تشريع قبل إثبات أصل
الجواز، وعلى هذا يحمل كون القرآن والأحاديث حجةً؛ إذ لا حجة لهما أصلا إلا بإثبات
ما يتوقفان عليه (انظر مثلا: المستصفى: ج. 1 36-38)؛ ومن ثمة قلنا، نقلا عن
المتكلمين، أن دلائل التشريع لا تتمحضّ كدلائل العقل؛ حيث إن وجود «السمعيّ المحض»
محال –كما قرر الإمام
الفخر (ت. 606هـ) وغيره من متأخري الأشعريّة رضي الله عنهم– إلا على تفسير وهو قول يطول تفصيله؛ لكنه محزّ الإشكال، على أنَّ السيد الكريم ما فهمه ولا وعاه (انظر: المحصّل 1991: 141-42. شرح
المعالم 2011: ص. 72-75. المباحث العقلية 2017: 518-21).
يقول أبو القاسم الأنصاري (ت. 512هـ) شارح الإرشاد:
«أما ما لا يدرك إلا سمعا: فهو القضاء بوقوع ما
يجوز في العقل وقوعه ولا يجب، فلا يتقرر الحكم بثوت الجائز فيما غاب عنا إلا بسمع»
(ج 3: 274).
لاحظ كيف حصر قول الشرع في تعيين «ثبوت» أمر قضى
العقل بجوازه قبلُ، والعبارة شبيهة بتلك التي للغزالي. ثم يقول: «ويتصل بهذا القسم
عندنا جملة أحكام التكليف وقضاياه، من التقبيح والتحسين والإيجاب والحظر والإباحة …» إلى أن يقول:
«إذ في مجرّد العقول أدلة عليه [=على الحدوث] وعلى
افتقاره إلى محدث، وفيها أدلة على قدم محدثه وأوصافه … وما يجوز منه ويستحيل
عليه … وغير ذلك من المسائل
التي لا تتعلق بحقيقة شرع ترد فيه. فإن لصانع العالم: أن يبعث الرسل ويأمر الخلق
بالشرائع تعبدا، وليس في العقول بمجردها أدلة تعيين الشرائع» (ج. 3: 274-75).
بناءً على ما تقدم نقول: جعل الإجماع أصلا، هكذَا
مطلقًا كما توهم السيد الفاضل، من أصول علم الكلام مُشكل إلا إذا قيّد بقيد؛ إذ الجاري، في أوضاع علماء
الكلام، اعتبار أصولهم عقليّة مادام مبنى الكلام على أصل العقل -وهذا يحتاج مزيد
توضيح لا وقت له-، ومن البيّن أن الإجماع بما هو أصلٌ متوقف على ثبوت أصل الشرع،
وثبوتُ أصل الشرع متوقف على ثبوته بغير نفسه وإلا لزم المحال العقليّ -كما هو
مقرّر في علم الكلام-؛ فكيف بعد هذا الزعم بأصلية الإجماع بإطلاق؟!. والحال أنَّ
الإجماع متوقف على ثبوت النبوة المتوقفة على ثبوت كونها جائزةً، وحصولها متوقف على
ثبوت وجود واجب الوجود، المتوقف على إثبات أصل المعارف، وهكذَا إلى أن ننتهي إلى
أصول العقل البديهيّة والذاتية الثبوت وتلك مسألة فلسفية أخرى.
ولئن تأملنا إجماعات المتكلمينَ؛ لوجدناها إجماعات
في أمور شرعيات، ولن نلفي نقلا لإجماع في أصل عقليّ أو في أصل يتوقف الشرع، ثبوتا،
عليه قبل ثبوت الإجماع؛ فهذا يثبت بثبوت شرع جعله أصلاً في التّشريع كما قلنا. ولا
ندري أين فهم السيد الكريم إنكار استدلال المتكلمين بدليل الإجماع رأسا!. إذ القصد
بيان أن الاستدلال به معتبر من الحيثية التي ذُكرت. وما أورده، بعدُ، من أمثلة على
إثبات صفات السمع والبصر والكلام بدليل النقل يحتاج إلى تفصيل، مجمله أنَّ إثباتها
بالنقل قول في المذهب الأشعريّ وليس مقالة للأشعرية بإطلاق (شرح الوسطى 2019:
ص. 306، 311-314)، وعلى القول بأن دليلهَا شرعي من طريق الإجماع، وهو ترجيح جماعة
من المتأخرين، فإنه لا يخرج عمَّا تقدّم؛ حيث إنها تصير صفات ثابتة من طريق النقل
الثابت بأصل العقل أو بأصل لها ثبت بالعقل كصدق النبوة (انظر: شرح لمع الأدلة:
ص. 99).
خلاصة القول على هذا، ووفق نظائره، يقرّر الأشاعرة
عود السمعيات، ومن ثمة الإجماع أحد الدلائل عليها، إلى أصل الجواز العقليّ، غير أن هذا الرجوع يحتمل تفصيلا آخر غير ما قلناه هنا. فما
وقع فيه تشويش السيد الفاضل هو متى يكون الإجماع أصلا؟ وعلى أي معنى تحمل أصليته؟
وهل يكون أصلا من وجه وفرعا من وجه؟ وما منزلة أصليته من أصل العقل؟ وما معنى كون السمعيات وأدلتها قطعية؟. أما بخصوص ما قاله
لنا في ردّ آخر عن الفرق بين الأشعرية والمعتزلة فنحسبه قولَ غير متخصّص في علم
الكلام فلا حاجة للكلام فيه.
والله الموفق للصواب
محمّد
Erradimoham@gmail.com
تعقيب في غاية الدقة فتح الله عليكم
ردحذف