الوجه الفلسفيّ فِي فِكر فخر الدين الرّازي (ت. 1209م)


في نهاية كتَابِه: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (المؤلّف قبلَ سنة: 595 هـ/1199م) وفي الفصل المخصصّ للفلاسِفة منه؛ يحكي فخر الدين الرّازي (ت. 606 هـ/1209م)، بمرارةٍ باديةٍ، ما يواجهه من قِبل «الأعداء والحسّاد» من عدمِ احترامٍ وتقديرٍ لأعمالِه المناقشَة والمناهضة للفكرِ الفلسفيّ، والذين يعتقدون أنها ليست «على مذهب أهل السّنة والجماعة»، رغمَ ما بذلَه من جهودٍ فِي ردّ مذاهب الفلاسفة من خلال تأليفه لكتبٍ «كنهاية العقول، وكتاب المباحثِ المشرقيّة، وكتابِ الملخص، وكتابِ شرح الإشارات ...» وغيرها من المؤلفاتِ، غير أنّ مرارتَه تلك ما كانتْ لتزيد إلاّ حدّة؛ إذ لم يقتصر هذا الأمر على مناوئيه فحسب؛ بل شمل «الأصحاب والأحباب» من معارفه (الرازي، 1938:  91، 92، 93. شحادة، 2006: 9).

لا يسعفنَا النصّ في تبيّنٍ أكثر لصورةِ هذه العداوة ولأسبابها التفصيلية؛ إلا أننا يمكنُ أنْ نرجعها، وحسب سياق النص وبعض المطياتِ الخارجيّة؛ إلى اشتغاله بالفلسفةِ على نحوٍ لم يكن معهودًا عند متكلمٍ من ذي قبل؛ وقد شمل هذا الاشتغال صورةَ دمج لنسَقي الفكرين الفلسفيّ والكلاميّ في مؤلفاتٍ لا نظير لها في السياق الفلسفي العربي الإسلاميّ قبل ق: 7 الهجري / ق: 12 الميلادي.

• في تطور فكر فخر الدين الرازي:

احتفظتْ مؤلفاتُ فخر الدين الرازي بتدرجاتٍ فكريّة مستْ بنيةَ فكره الاستدلالي من جهة؛ وبنية القضايا المعالجة من جهة ثانية؛ حيثُ يلاحظُ، دونَ صعوباتٍ كبيرة، تطوراتٌ في فكره الكلامي ومواقفِه الفلسفيّة؛ كانَت نتيجة تفاعل عدّة موجهات ومؤثّراتٍ فلسفية ومنطقية، وكلامية - بعضها يعود إلى معتزلة ق: 6 الهجري/ ق: 12 الميلادي -؛ إذ غذّت هذه التقاليد كلها نظرياتِ الرازي العقديّة والفلسفية، والأخلاقيّة ( انظر مثلا: شحادة، 2006: 2، 3، 4، 5 والفصل الأوّل منه).

وبتفحّصٍ سريعٍ لكتابِه: الإشارة في علم الكلام (ألف قبل: 579 هـ/1184م) يمكن للمرءِ أنْ يتلمسَ صورة الرازي الأولى، الصورة التي بدا فيها الرجلُ أشعريًّا تقليديّا على نحو كبيرٍ، ليس فقط بوسمه الشيخَ الأشعريّ (342 هـ/936م) بـ:«شيخُنا أبو الحسن» (الزركان، 1963: 620)؛ ولكن ببناءِ الكتابِ وتنسيقه العام، إضافةً إلى تبنيه للآراء الأساسية في الفكر الأشعريّ، والتي كانت مغايرةً إلى حد بعيدٍ للفكر الفلسفي؛ وهي الآراءُ التِي لم يدقق الرازي النظرَ فيها بعدُ كما في أعماله اللاحقة. ويمكننا، بيانًا لهذا، أنْ نسجل موافقة الرازي للأشعري في «كيفية تَرتّب العلم على النظر» (الرازي، 2009: 44، 45، 46)؛ وكيفية استدلاله على وجودِ الله، والذي بدا، في طريقتيه، موافقًا لأشعرية ما قبل ق: 6 الهجري / ق: 12 الميلادي (الرازي، 2009: 48؛ 53؛ 60، 61). وهو الذي قرّر، إلى ذلك، استحالة وجودِ موجودٍ مجرّد ينتمي إلى صنف الممكناتٍ تقريرًا سيتخلى عنه لاحِقا (الرازي، 2009: 57، 58 وما بعدها. وراجع أيضا تقريره لمذهب الأشعري في علاقة «الوجود» بـ«بحقيقة الله» في: الرازي، 2009: 75، 76، 77).

في رسالتِه المهمةِ حاول الأستاذ الزركانَ - مطلع العقد السادس من القرن الماضي - رسمَ مخطّط زمني لتطور فكر فخر الدين الرازي الكلامي والفلسفي من خلال مؤلفاتِه مستدلاّ ببعض المعطيات النصّية التي توفرها مؤلفات الرازي. وقد خطّ الزركان رسما عامّا لموضوعاتِ مؤلفاته التي تتوزع بين مؤلفات فلسفية تقدّم خلاصاتٍ سينويةً مشوبة بمؤثراتٍ فلسفيّة؛ وأخرى كلامية تتراوحِ بين خلاصاتٍ دقيقةٍ، أو مؤلفاتٍ موسّعة يُناقش في بعض منهما مسائل فلسفية خالصة (الزركان، 1963: 618 وما بعدها). وقد سجّل الزركان، خلافًا لما قاله الرازي نفسه في نص الاعتقادات المحال عليه أوّلاً؛ ملاحظاتٍ حول بعض أعمال الرازي التِي كانت عبارة عنْ عرضٍ فلسفيّ غير كلامي موجز وملخصٍ؛ فكتاب: المباحث المشرقية – مثلا - (ألف قبل: 582 هـ/1186م)، والذي يعدّه الرازي عملاً كلاميّا؛ ليس، حسب الزركان، سوى «تأليف يجمع فيه [الرازي] آراء الفلاسفة المتقدمين – وخصوصا ابن سينا -» ملخصا وعارضا (الزركان، 1963: 87؛ 612).

• إشكالية الصّفات الإلهية بحلّ فلسفيّ:

منْ المسائل الشائكة في تاريخِ علم الكلام الفلسفيّ قضية الصفات الإلهية المعنوية الزائدة على الذات الإلهية، والموجودة بوجودٍ موضوعِي؛ وهي القضية التِي وافق فيها الرازي مذهب الأشاعرة الأولين في بعض أعماله الأولى؛ ولكنه، في آخر أعماله، ألحق بها تغييرًا كبيرًا، مسببًا لنفسِه انتقاداتٍ عنيفةً وشديدة داخل المذهبِ الأشعريّ المتأخر؛ حيث رأى فيها بعض الأشعرية المتأخرينَ مشَايعةً فجّة من الرازي لمذهب الفلاسفة، وتأثّرًا واضحًا بهم، استلزمَ نفيَ صفات الله الوجودية وردّها إلى مجرّد اعتبارٍ ذهنيّ إضافي (اقرأ تلميح الشيخ السّنوسيّ (ت. 895 هـ/1490م) في السّنوسي، 2003: 104، 105، 106).

وأيّا ما كان فإنّ هذه المسألة تفيدنا في معرفة بعض من معالم الفكر الكلامي الممزوج بالفلسفةِ عند أشاعرة ما بعد ق: 7 الهجري / ق: 12 الميلادي؛ كما تفيدنا في تتبعِ تقلباتِ الرازي، ورصد المؤثّرات الفلسفية التِي تحكمت فيها ووجهتها إلى اختياراتٍ فريدة.

ففي عمله: نهاية العقول الفاصل بين مرحلتين من حياتِه (كتبَ قبل: 579 هـ/1184م. راجع: شحادة، 2006: 8) يبدو فخر الدين الرازي موافقًا مذهب الأشعرية التقليديّ مشايعا لهم مدافعًا عنهم؛ إذ يقول: «ومنهم من جعلها [صفات المعاني] معلومة في نفسها موجودة في ذاتها، وهو مذهبنا» (الرازي، 2015: 2/ 209؛ 2/ 232 وما بعدها). لكنه، لاحقًا، سيطور من موقفه هذا؛ إذ نقرأ له تصريحًا بإثباتٍ الذاتِ الإلهية مع إضافة ونسبة معقولةٍ للذاتِ بإزاء الأمر الذي تتوجه إليه الصفة تَعَلُّقًا؛ فلم تعد الصفاتُ الإلهية في فئة المعاني أمُورا حقيقةً ذات محددات وجودية وموضوعية؛ بل صارتْ، حسب الرازي، «نسبة» وإضافة متعقَّلة بين ذات الله والأمر المعلوم أو المقدور (الرازي، 2004: 150، 151. الرازي، 2016: 100).

لقد قد وظّفَ الرازي في حل هذه الإشكالية، ببراعة تامة ومثيرة، معرفَته الفلسفية الواسعة بالنظريات المتافيزيقة، والفلسفية، والمنطقية؛ حيثُ استلهمَ نظريةَ: الإضافة النسبية التي تعدّ مقولة ضمنَ لوحِ المقولات الفلسفية المأخوذة من التراث الفلسفيّ والمنطقي التقليدي (رَاجع كتاب: المقولات من: منطق أرسطو، 1980: 1/ 31. مقولة الإضافة في: 1/ 48). ولا يعنينا، هنَا، بسط هذه النظرية في ذاتها بقدر ما نحن معنيون بمعرفة مدى تمكن الرازي من هذه النظريات، ومدى اعتداده بها في اقتراح حلول كلامية غير مسبوقة. إنْ بوادر بعض آرائه قد بدت في أعماله المتراتبة زمانيّا غيرَ مفاجئة، وخاضعة لتحولات فكرية كانت ضرورية؛ مما أعطى صورة تصاعدية لفكره بلغت ذروتَها في ملخصاتِه وشروحه، وأعماله الموسعة في فترة حياته الأخيرة.

• بيبليوغرافيا:

-         أرسطو:

أرسطو، 1980: كتاب المقولات ضمن: منطق أرسطو، تحقيق: عبد الرحمن بدوي. وكالة المطبوعات الكويت / دار القلم بيروت ط:1.

-         الرازي فخر الدين:

الرازي، 1938: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، مراجعة وتحرير: علي سامي النشار. مكتبة النهضة المصرية.

الرازي، 2004: كتاب الأربعين في أصول الدين، تحقيق: أحمد حجازي السقا. دار الجيل – القاهرة ط:1.

الرازي، 2009: الإشارة في علم الكلام، تحقيق: هاني محمد حامد محمد. المكتبة الأزهرية للتراث - مصر.

الرازي، 2015: نهاية العقول في دراية الأصول، تحقيق: سعيد عبد اللطيف فودة. دار الذخائر – بيروت ط:1.

الرازي، 2016: معالم أصول الدين ضمن: أسئلة نجم الدين الكاتبي، تحقيق: زابينه اشميتكه رضا بورجوادي. منشورات الجمل – بيروت ط:1.

-         الزركان محمد صالح:

الزركان، 1963: فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية. دار الفكر - بيروت ط: 1.

-         السنوسي محمد بن يوسف:

السّنوسي، 2003: أم البراهين السنوسية مع حاشية الدسوقي. المكتبة العصرية – بيروت ط: 1.

-         شحادة أيمن:

شحادة، 2006:

 .The Teleological Ethics of Fakhr al-Dīn al-Rāzī. Brill - LEIDEN – BOSTON



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أوراق أشعرية 3: تعليق على نشرة لمَع أبي الحسن الأشعريّ لـ أ.د حسَن الشافعي

أوراق_أشعرية 5: عن المباحث العقلية في شرح معاني البرهانية

أوراق أشعرية 4: في محاولةِ رفعِ ’’قلـقِ‘‘ عبارة حولَ كسب الأشاعرة