تاريخُ الأشعريّة في عهد المرابطين والبَحث العِلميّ



تاريخُ الأشعريّة في عهد المرابطين والبَحث العِلميّ:

#الأشعرية_المغربية #المرابطون #تاريخ_علم_الكلام #تاريخ_الأفكار #عقيدة_المرادي

...

لا شكّ أنّ دارسًا للفكرِ الإسلاميّ يحترم نفسَه، وعمله البَحثي يقرّ بما للوثَائق التاريخيّة، بكل صورها، من أهميّة بالغةٍ في تطويرِ مجال الأبحاثِ في تاريخِ الأفكارِ بالعَالم الإسلاميّ، من حيث إنّها أوثق معطى يمكنه أنْ يحدثنا عن فكرِ حقبة ما وزمانٍ ما.

وإلى زمنٍ قريبٍ كانت بعضُ الدراسَات العربيّة المتأثّرة ببعضِ البواعثِ العقديّة تحاولُ ما أمكنها ذلك أنْ تصوّر تاريخًا سلبيًّا واحِدا ووحيدًا للأشعريّة زمن المرابطينَ؛ مستندةً في ذلك على بعض الإحالات التّاريخيّة والنصية، وهِي - وللأسف – الدراسات التي تسندُ عددًا غير قليلٍ من أقوال الأكاديميين العرب، في أقل تقدير، وفقَ نفس الباعث والنّفس البحثيّ، إلى اليوم، متجاهلين التطوراتِ والتراكمات الحاصلةِ في: وثائق أشعريي الغرب الإسْلاميّ في عَهد المرابِطين. وقد جاء في بعض أشهر تلك الأبحاث تقرير بحثي تاريخيّ عنْد الحديث عن انتشار أهل السنة والجماعة، بمفهومٍ عقدي ضيِّق، قبل عهد المرابطين، بقليل، وفي خضمّه؛ دونَ تبيّن مجمل الأدوات البحثية المسلمة التِي طغت على التحليل والتركيب ومن ثمّ الانتهاء إلى استنتاجات قد تكون صحيحة، علميا، في زمانٍ ما بشرطِ ألاّ تغلّف بهاجسٍ غير علمي. وهذه، أدناه، عينة قصيرة جدّا من الاستنتاج الذي يضربُ مقدَّم مؤخَّرَه بشيء من التناقض الخفيف، يحاول جاهدًا صاحبه تأكيد تأّصّل ’’عقائد السَّلف‘‘ - بمفهومٍ مذهبيّ محدّد مسبقًا - في عهد المرابطين:

«وهذا لا يمنعُ أنّه وجد قبل ذلك [عهد المرابطين] من العلماء من تأثر بمذهب الأشعري قليلا أو كثيرًا». «ومما لا شك فيه أنّ أهل المغرب عرفوا المذهب الأشعري مبكرا، ربما في عهد مؤسسه نفسه، أما اعتناق الطريقة الأشعرية في التصور العقدي فلم يكن وجوده بالمغرب قبل المهدي ابن تومرت إلا وجودا محدودا في آحاد الأفراد».

«لقد رأينا فيما تقدم من البحث أن الأشعرية لم تعرف في المغرب كمذهبٍ يتمذهب به عامة الناس وخاصتهم، إلا بعد رجوع ابن تومرت من رحلته المشرقية، وتكوينه لدولة الموحدين، وتغلبه على المغرب».

ظهرتْ سنة: 2012م وثيقَة من الوثَائق التِي أكّدت للدارسينَ أن ثمة حضورًا ما للأشعريّة في عهدِ صوّر على غير ما تسندُه كل المعطيَات المتوفرة على الأقل الآن. فقد حقَّق ونشَر الأستَاذِ د. جمال علال البَخْتِي عملَ المتكلّم المغاربيّ القاضي أبي بكر المرادِي الحضرمي (ت. 489 هـ/1095م) المنتمِي إلى عهدِ المرابطينَ، وهو عمل ذو وزنٍ كبير لِكونه قدّم لنا معطى توثيقيّا جديدًا لتاريخ الفكر الأشْعري بالغرب الإسلامي في مرحلَة هامّة ومبكّرة نوعا ما؛ مرحلة عرف فيها المغاربَة أعمال القاضِي الباقلانيّ (ت. 403 هـ/1013م) وتلقوها بعنايةٍ بالغةٍ كما تفيدنا مصادر أخرى منها كُتيّب المرادي هذا. 

والعمل، المشار إليه، يصوّر كيف كانتْ مكانة الأشعريّة بين أوائل حكّام الدولة المرابطية، الذين قرّبوا بعضًا من روادها، وأولوهم عناية خاصة في تدبير شؤون الناس الدينية، والمدنية، والعسكريّة؛ بل إنّ القاضيَ أبا بكر المرادي الذي التحق بحاشية الأمير المرابطي أبي بكر ابن عمر اللمتوني (ت. 480 هـ/1087م) في بلاد إفريقيا بالصحراء الجنوبية سنة: 453 هـ/1061م - كما تفيدنا الدراسة المطولة لمحقق العمل علاّل البختي - قد وليَ قضاء مدينة ’’آزوكي‘‘ التاريخية - الموجودة حاليا بجمهورية موريتانيا باعتبارها موقعًا أثريًّا بالغ الأهمية (انظر الصورة أدناه) - التي كانت حاضرة من حواضر المرابطين الأولى بأفريقيا، وشاهدا على نفوذ سلطان الدولة المرابطية ببلاد الصحراء الكبرى بفضلِ دهاء أبي بكر اللمتوني الذي يقال أنّه تنازل عن السلطة - ولو جزئيًّا - لصالح ابن عمّه يوسف ابن تاشفين (500 هـ/1106م) سنة: 453 هـ/1061م. لكنّ عوادي الزمنْ، لم تلقِ لـحاضرة ’’آزوكي‘‘ بالاً رغم محورية المكان في تشييد بلاد المرابطين وتوسيع رقعتها الأميرية في إفريقيا. دون الحديث عن دور الفكر الأشعريّ، بسبب حلقاتِه القيروانية بتونس، في تحريك البواعث الدينية الإصلاحية مع الفقيه والمتكلم أبي عمران الفاسي (ت. 430 هـ/م) باثِّ الشرارة الأولى لقيام رباط المرابطين المتحوِّل، لاحِقًا، إلى دولة ذات نفوذ سلطانيّ.

سطر القاضي أبو بكر المرادي، في مرحلة ما، كتابه المشهور بـ:’’الإشارة‘‘، والمنتمي إلى جنس أدبيّ في الكتابات السياسية الفقهية والدينية. كما سطر نصّ ’’العقيدة‘‘ بنفسٍ كلامي سنيّ ينهل من اختيارات الأشعرية الباقلانية التي نفذت معه إلى صحراء الغرب الإسلامي، دون شك، وهو الرجل الذي آثر قيظَ الصحراءِ على المكوثِ بأغماتِ - نواحي مراكش - أو بغرناطة الأندلس التي خلَّف فيها أبناءَه وعقبه من بعده. 

 


(صورة من آثار مدينة ’’آزوكي‘‘ عن تقرير قناة: الرؤية هنا)

هذا؛ دون الحديث عن معطيات تاريخية جرى تأويلها أو تلقيها على نحو يحتاج إلى إعادة نظر، وقد زكّى كلَّ ذلك ظهورُ مؤلفات أخرى تنتمي إلى نفس الحقبة المرابطية، تزلزل، على الأقل، الركون المبالغ فيه، من قِبل دراسين، حول طبيعة عقائد دولة المرابطين، وميولاتهم العقلانية نحو علمي الكلام والفلسفة.

وأيّا كان فإن عملاً يكتبه صاحبُه بلباسِ علميّ دون أن يلقيَ بالاً لما استجد حوله من معطياتٍ نصية وتاريخية تزيد من تواتر وتراكم المعطيات المعرفية لتاريخ الأفكار؛ سيبقَى قاصِرًا يزيد الزمانُ من قصُوره وضعفهٍ إلى أن يُنسخ نسخًا؛ فإلى متى تحبسنَا بواعثُ عقديّة عن تقرير ما عفا عنْه الزمان بحثيًّا!، أو عن تقرير ما هو معطًى لا يخضع بالضرورة لأي اعتبارٍ غير موضوعيّ؛ فإنّ للبحثِ العلميّ تقاليدَ تصان وهذِه منها.



 
عقيدة أبي بكر المرادي الحضرمي، تحقيق ودراسة: علال البختي جمال. منشورات مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات العقدية: سلسة ذخائر من التراث الأشعري المغربي ’’1‘‘، ط: الأولى 2012م.

....

#الأشعرية_المغربية #المرابطون #تاريخ_علم_الكلام #تاريخ_الأفكار #عقيدة_المرادي

ودوّنه:

محمد الراضي، 

باحث في تاريخ الفكر الإسلامي الوسيط وتاريخ علم الكلام.

Twitter Facebook

 

تعليقات

  1. شكرا لكم على التنوير والإفادة..

    ردحذف
    الردود
    1. مرحبًا سيدي الكريم، وشكرا لكم على المرور ..

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أوراق أشعرية 3: تعليق على نشرة لمَع أبي الحسن الأشعريّ لـ أ.د حسَن الشافعي

أوراق_أشعرية 5: عن المباحث العقلية في شرح معاني البرهانية

أوراق أشعرية 4: في محاولةِ رفعِ ’’قلـقِ‘‘ عبارة حولَ كسب الأشاعرة