أوراق أشعرية 4: في محاولةِ رفعِ ’’قلـقِ‘‘ عبارة حولَ كسب الأشاعرة

 


#أوراق_أشعرية_4: في محاولةِ رفعِ ’’قلـقِ‘‘ عبارة حولَ كسب الأشاعرة

نشرت هذه المقالة الصغيرة في موقع: أثارة فقه تدبير المعرفة © [هنَا] 27 ديسمبر 2020م (وما أدناه نسخة معدَّلة منقحة مع زيادات - تنسيق مدونة دراسات في علم الكلام)

تقدّم هذه المقالة، الصغيرة جدًّا، حلاًّ تفسيريًّا وفيلولوجيّا جزئيّا غيرَ مطوّل لعبارة دقيقة وغامضة واقعةٍ في كتب أحد أهم متكلمي علماء الغرب الإسلامي من الأشاعرة، وهي العبارة التِي ألفينَا فيها غموضًا ما لم يَرفع غشاوته إلا النقرُ الدّائم والمتواضع في تراثِ المتكلمينَ من الأشاعرة والمعتزلة، وكثرةُ التفكير فيها تأويلاً بإجراءِ جملة مقارنات نصّية نقدية داخلية وخارجية. فقبل نحو ثلاث سنوات، من تاريخ كتابة هذِه الأسطر (=27 ديسمبر 2020م)، أو أقلّ كانتْ عبارةٌ للمتكلم المغربي اللغوي أبي الحسن علي ابن خمير السّبتي الأشعريّ (ت. 614 هـ/1217م)، في كتابِه الكلامي الماتعِ مقدماتِ المراشد إلى علم العقائدِ؛ تحدثُ في نفسي شيئًا من قَلق في التأويل والفهم، وهي العبَارة التي تخفي، في نظري، بعْدًا عقديّا قويّا عند هذا المتكلمِ المغربيّ المغمور، الذي أخرج نصّه النفيس، على نحوٍ نقديّ، الدارس المغربي جمال عَلاَّل البَخْتي أوّلَ مرة سنةَ: 2004م(1) بتطوان المغربية. والمقالة هذه، على صغرها، تكتنف أمورًا، وليسَتْ تبسطها؛ لأنّها، وكما يأتي، تتوجه للباحثينَ المتخصصين، ولا تشرح مبادئ المسألة ولا لواحقها وأسسها.

....

في خضم النقاش حول نظرية الكسب الأشعرية ومفاصلها يقترحُ ابن خمير السّبتي في مقدمات المراشد في علم العقائد؛ تأويلاً متناسقًا لمذهبِ المتكلم الأشعري المعروف القاضِي أبي بكر ابن الطيّب الباقلاني (ت. 403 هـ/1013م)، وهو تأويل ينسجم معَ قولِ القاضي بنظرية الأحوال المثيرة للجدل في أحد اختياريْه المنقولين عنه، وتلك مسألة تاريخية أخرى!. ويبدو أنّ ابن خمير السّبتي يؤّيد الرواية القائلة بأنّ القاضي يرى صحة نظريّة الأحوال التِي فرَّع عنها الباقلاني قولاً فريدًا في تفسير نظرية الكسبِ.

إنّنا، وحسب ما توفره لنَا بعض النصوص الأشعريّة اليوم؛ نميلُ إلى القولِ بأنّ مصدرَ ابن خمير السبتي في هذا التأييد هو كتَاب الشامل في أصول الدين للمتكلم أبي المعالي الجوينيّ (ت. 478 هـ/1085م)، أحد المصادر التي عيّنها ابن خمير في صدر عملِه المقدمات قبلَ الدخولِ في المباحثاتِ الكلاميّة (ابن خمير، 2004: 76)، ممثّلاً، بذلك، صورة من صور أثر فكر أبي المعالي الجوينيّ في الأشعريّة المغربية (انظر مثلا: احنانة، 2017: 174). والمؤسفُ أنَّ ابن خمير، هنا، لا ينقلُ ممّا وصلنَا وطبعَ من الشامل في سنواتِ: 1959م، 1969م، 1981م(2) على التوالي (السالمي، 2018م: 78)؛ إذ، ومن المعلومِ، أنّ الأجزاءَ الأخرى المتبقية من العملِ، والتي تمثّل أكثر من نصفه، مفقودة؛ لذا فالسّبتِي ينقلُ ممّا هو مفقود وليس بين أيدينا اليوم، وتلك مسألة ليس هنا محلّ بسطها وحلّ إشكال توثيقها تاريخيا ونصيًّا لتكن، هاهنَا، مسلّمةً.

حسبَ ابن خمير فإنّ الإجابة عن إشكال كيفية تعلّق «قدرة» الإنسان «الحادثة» بـ«المقدور» يعد أساس وجوهر «المسألة ومعتمدها» تفسيرًا وحجاجًا؛ ومنْ ثمة فإنّ المتكلمينَ اختلفوا، فيما ينقل عنهم، «على أربعة أوجهٍ»، يختار منها قولا خامسًا يوافقُ مجملَ مذهب الأشاعرة:

·     القول بأنّ متعلَّقها بفتحِ اللام هو «الإيجاد»؛

·     القول بأنّ متعلًّقها هو أمر «غير الإيجاد»، ولكن لتعلُّقها تأثير حقيقيّ!؛

·     القول بأنّها تتعلّق بالمتعلَّق على «غير تأثير بوجهٍ من الوجوه»، وهو ما يراه ابن خمير «أشبه الأقوال» بالقول الصحيح، حسبه، والذِي يتبناه مع عمومِ الأشاعرة؛

·     القول بأنّ «متعلَّقها الحالُ» (ابن خمير، 2004: 235).

إنَّ القولين الأول والثاني ليسَا من مذهب الأشاعرة، ومن ثمةَ فهما ليسَا معتمدَ ابن خمير؛ حيثُ إنّه ردهما ردًّا استدلاليّا عنيفًا (ابن خمير، 2004: 224 وما بعدها؛ 232 وما بعدها). والإشكال الذي يلوح لنا يكمن في تفاصيل القول الرابع المبني على نظرية الحال، وهو القول الذي ذهب إليه بعض من سماهم ابن خمير بـ«أصحابنا» من الأشاعرة. ويحاول صاحب المقدمات، بعد حكاية المقالات في المسألة، رفع إشكالِ عدم اتساق هذه المقالة الأشعريَّة مع مذهب الأشاعرة باقتراحِ تأويل نسقي ينسجم مع نظرية الكسب الأشعريّة التي يرى فيها أصحابه، فيما اشتهرَ على الأقل، أنّ القدرة تتعلق بالمقدور الموجودِ من غير تأثير في المقدور وهو القول الخامس (ابن خمير، 2004: 235، 236).

إننّا نعلمُ أنّ ابن خمير يقصد بـالأصحاب، في نسبة هذه المقالة الرابعة؛ القاضيَ أبا بكر الباقلاني، على الأقلّ؛ غير أنها تعدّ بالنسبة إليه، كما باقي الأشاعرة في فترة مبكرة عمومًا، قولاً غير مرغوبٍ به إطلاقًا بسبب فتحها احتمالا للقول بتأثير القدرة الحادثة في مقدورها بشكل من الأشكال، والحال أنّه ليسَ للقدرة الحادثة تأثيرٌ؛ فما العمل إذن؟!. قلنا بأنّ أبا الحسن ابن خمير اقترحَ حلاّ نسقيا تأملنَاه مدّة، وحولنَا فكّه فيلولوجيًّا من مصادر كلامية أخرى أشعرية ومعتزلية إلى أنْ وصلنَا إلى ما نعتقد كونه تفسيرًا منسّقا له. يقول ابن خمير كما هو مثبت في النص المحقَّق:

«من قال من أصحابنا إنها [=القدرة الحادثة] تتعلّق بالحال فقد نفّس خناق القدرية في ادعائهم طروؤها حال الوجود على الشيء بالقادر، فإذا جعل لهم سبيلاً في تعلّق القدرة بالحال، لم يمكنه الرد عليهم في ثاني حال» (ابن خمير، 2004: 235).

لفكّ هذا النصّ المغلق نقترحُ قراءَة عبارة «طروؤها» بعبارة أخرى بديلة هي: طروء؛ فتصير الجملة بهذا النحو: «في ادعائهم طروءَ حالِ الوجودِ على الشيء بالقادر ...»، ومن ثمة يكون «طروء» مفعولاً لمصدر الادعاء مضافًا إلى لفظ «حال» بيانًا لنوعِ هذَا الطارئ، بدل ما تعطيه العبارة المثبتة في التحقيق أعلاه من كونِ «حال» منصوبًا بنزع الجارّ.

 إن الباعث على التزام هذا الاقتراح المفسِّر تفريقُ جامعةٍ من المعتزلة بينَ صفة الوجود التي هي صفة حال عندهم، وبين الصفاتِ التابعة واللاحقة للوجود المعتبرة أحوالا ثانية هي الأخرى. فللجوهر، مثلا، حالان: 1) حال أولى طارئة عليه عند وجوده المسبوق بالعدم (= الحدوث)، وهي حال تحصل للشيء المعدوم  قبلُ كما تقول نظريتهم في المعدوماتِ بـ«القادر» عند وجوده الأول المسمّى حدوثًا؛ 2) أما الحال الثانية، فهي: الأحوال الثواني من نحوِ كونِ الجوهر ذَا حيّزٍ، وقابلا للأعراضِ ... إلخ؛ فإنها، حسبهم دائما، صفاتٌ تجب عقلا للجوهر عند الحدوثِ لا قبلَه، ولا عند عدمه، «ولا يجوز تقدير انتفائها مع ثبوت الحدوث»، وهي، بخلاف حال الوجود، «لا تثبت بالقدرة ولا بشيء من صفات القادر»؛ فهي إذن تابعة ولاحقة للحال الأولى (الجويني، 1981: 24). ومن ثمة فإن هذه الأحوال الثانية كما سميناها هي التي وسمها ابن خمير بـ«ثاني حال» كما مرّ.

هذا، إذن، هو التفسير والتعديل المقترح لنصّ ابن خمير السابقِ، والرافع لقلقه وعدم وضوحه؛ وهو، إلى ذلك، يبين مدى كونِ مذهبِ القاضي الباقلاني، كما يفيد تأويل ابن خمير له، جدليّا يرومُ إخراج المعتزلة من مأزقهم (=«نفّس خناق القدرية»)؛ حيث يصير قولاً في معرضِ المحاجَّةٍ وفق أصول المخالفِ لا وفق ما يُفترض أن القاضي يسلم به أصلا صحيحًا؛ أي القول بعدم تأثير قُدر العباد في شيءٍ ألبتة. والباقلاني، في تأويل ابن خمير، إنْ سلّم تعلّقا ما للقدرة بـ«الحالِ» في أوّل حالةِ الوجودِ؛ فإنّ الخصمَ المفترض لن يقول بتعلقها، مجدّدًا، بالأحوال الثواني كما هو مقتضى مذهب بعض المعتزلة.

هذا؛ وأخيرًا، لنا أن نلاحظ بأنّ ابن خمير، لا يكتفي بنقل قول القاضِي رأسًا؛ بل يحاول تأويله تأويلاً يبقي مذهبه ضمنَ مذهب الجماعة من الأشاعرة القائلين بالكسبِ ولواحقه المفاهيمية وأحكامه الكلية الكبرى، والتي من أسسها ألاّ تكونَ القدرة الحادثة مؤثّرة في المقدور.

 

والله الموفّق

كتبه محمَّد الراضي، طالب باحث

Erradimoham@gmail.com

 Mohamederradi@gmail.com

__________________

(1) للنصّ ثلاث نشرات: 1) النشرة المغربية بتطوان في سنة: 2004م، وهي المشار إليها في متن المقالة ولائحة مصادرها كما في الصورة. 2) نشرة كل من المرحوم الدكتور أحمد السايح وتوفيق وهبة بالقاهرة عن: مكتبة الثقافة الدينية سنة: 2007م، وهي نشرة استنسختْ نشرةَ علال البختي دون أدنى إشارة له ولعملِه، مستندة كما يعطينَا فحصها على نشرة البختي كليًّا حتى في العناوين الموضوعة. ولم ترجع، خلافًا لما تشي المقدمة، لمخطوطةِ القرويين كما تدلّ على ذلك قرائن كثيرة. انظر: مقدمات المراشد، تحقيق أحمد السايح ومراد وهبة، ط. 1 (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2007)، ص. 17 وما بعدها. وراجع، مثلا، ص. 77، مقارنًا ذلك بالذيل الثاني من ص. 134 في نشرة تطوان. 3) النشرة المصرية للبختي عن نفس النّاشر (=القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية) عام: 2011م، وهي مصورة عن النشرة المغربية الأولى موافقة لها في كل شيء.

(2) نشرتا: 1959م، و 1981م تحقيقان لـكل من المستشرقين: هلموت كلوبفر، وفرانك على التوالي للأبواب الأولى من الكتاب في: النظر، وحقيقة التعريفات، والاستدلال. أما نشرة: 1969م المحققة من قِبل علي سامي النشار وآخرين فهي لأبواب الكتاب التالية إلى: كتاب العلل. ومازال الأمر يحتاج إلى مزيد تحقّقٍ.

المصادر:

ابن خمير، أبو الحسن علي: 2004:

مقدمات المراشد في علم العقائد. تحقيق جمال علال البختي. تطوان: مطبعة الخليج العربيّ.

احنانة، يوسف: 2017:

تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي. الرباط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

الجويني، أبو المعالي عبد الملك: 1981:

الشامل في أصول الدين. تحقيق: ر.م فرانك. طهران: مؤسسة مطالعات إسلامي.

السالمي، ياسين: 2018:

مصادر علم الكلام: وراقة لأهم ما طبع من تآليف المعتزلة والأشاعرة (إلى حدود ق 5 هـ). الرباط: دار القلم.

تنسيق وإعداد: دراسات في علم الكلام.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أوراق أشعرية 3: تعليق على نشرة لمَع أبي الحسن الأشعريّ لـ أ.د حسَن الشافعي

أوراق_أشعرية 5: عن المباحث العقلية في شرح معاني البرهانية