شرح الحفيدة للعربي الفاسي - قراءة في الغاية والبناء

 


شرح الحفيدة للعربي الفاسي - قراءة في الغاية والبناء

___

العربي الفاسي، أبو حامد محمد. شرح العقيدة الحفيدة، تحقيق نزار حمَّادي (الكويت: دار الضياء للنشر والتوزيع، 2013)، 40 صفحة. مق، 14 × 20. 18 در. مغربيا.

al-ʿArbī al-Fasī, Abū Hāmid muhammad. Shar l-ʿAqīda al-afīdah, Edited by Nizār Hammādī (Koweït: Dār a-iyāʾ li-n-Nashri wa-t-Tawzīʿ, 2013), 40 pp. 20 × 14. 18 MAD.

في كتيبٍ جيبيّ من الحجم الصغير تضمن: مقدمةَ المحقق (ص. 5-11)، وترجمة لمؤلّفه أبي حامد العربي الفاسي (ص. 13-16)، وصورتي مخطوط العمل (ص. 17)، ومتن العقيدة الحفيدة (ص. 19-20) (حقّق المتن نقديا في: خالد زَهري، ثلاث عقائد أشعرية – دراسة وتحقيق. تطوان: مركز أبي الحسن الأشعري، 2012)، ثم شرحَ العقيدة الحفيدة لـ: أبي حامد العربيّ الفاسي (ص. 21-39)؛ قدَّم الدارس التونسيّ نزار حمّادي سنة: 2013م (1434 هـ) نصّ شرح العقيدة الحفيدة للعالم المدرسيّ «خطيب القرويين» أبي حامد محمد العربيّ الفاسي (ت. 1052 هـ/1642م) في صفحاتٍ معدودةٍ ومحدودةٍ للغايةِ لم يكن العمل فيها كبيرًا ولا حتى متوسطًا؛ إذ يمكنُ أن يقال، في موافقة لكلام الشارح، بأنّ الشرحَ ساوقَ العمل التعليميّ المشروح العقيدة الحفيدة في الاختصار والاكتناز بصورة دقيقة للغايةِ أحالت طبيعة الشرح تفكيكًا للمتنِ المشروح.

لقد مثَّل هذا العمل التفسيريّ الصغير صورةً صادقة للتفاعل والتلقي الكبيرين اللذين حظيتْ بهما أعمال المتكلم المرموق أبي عبد الله محمد بن يوسف السّنوسي التلمسانيّ (ت. 895 هـ/1490م) في شمال إفريقيا المسلمَة. ففي القرون التالية للقرن الخامس عشر الميلادي كانت تقريبات السَّنوسي السباعيّة المتسلسلة تناسقًا تنتشر بين دارسِي علم الكلام الأشعريّ في الغرب الإسلامي، على الأقل، بنحو لافتْ عزّ نظيره. والحقيقة أن العلماء المدرسين والطلبة وجدوا في السنوسيات مظِنَّة جيّدة يستند عليْها في التلقين والتلقي التدريسي لأفكار المذهب الجوهرية، سيما العقيدة الكبرى المسماة بـ: عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلماتِ الجهل وربقة التقليد، والعقيدة الصغرى المشهورة بـ: أمّ البراهين وذات البراهين والسنوسية. التِي مازالت منتشرة في التعليم السنيّ المعاصر إلى يومنا هذا.

وضمنَ سنوسياتِ أبي عبد الله كانتْ العقيدة الحفيدة أو صغرى صغرى الصُّغرى، التي عنيَ أبو حامد العربي بشرحها هذا؛ تقصد التوجه نحو التقريب والتعليم أساسًا؛ لكن هذِه خصَّتْ تعليم فئِة النساء والصبيان والبنات بمزيّة في التقريب غير تلك التي في المؤلفين الآخرين —مثلا—؛ وهو الأمر الذي ظهر فيها جليًّا حين عمد السنوسي إلى إسقاطِ تفاصيل غيرها، مكتفيا بتضمينها أساسياتِ العقيدة مفاهيم وأدلة (ص. 9)؛ فكانتْ، من ثمة، مكافئَةً لعمله الأخير تسلسًا: العقيدة المفيدة أو العقيدة المفِيدة للولدانِ والنِّسَاء المؤمنَات (زَهري، 2012: 137-140).

قد شاعَ بين الناس، في حقبة السنوسي وما بعدها؛ عدم توجه النسَاء إلى التعليم العالي إلا قليلا، ولعل محدوديةَ تعليمِ المرأة، فيما يبدو، كانت ظاهرة منتشرة بنحوٍ كبيرٍ؛ إذ قلما تحدثنا المصادر التاريخية، موازاةً بالرِّجال؛ عن نسَاء برزن في بعض المعارف الدينية، أو كنّ ضمن الطلبة الذين درسوا أعمال السنوسيّ عالية الدقة؛ رغم أنّها لا تستثنيهن؛ بل يستشفّ من بعضها رغبة صاحبها الجامحة —لدواعٍ دينية أساسًا— في تعليم النساء مَا يعتبرُ غاية قصوى من حيث الأهمية، من ثمَّ يمكننا أن نرى في تقريبات السنوسيّ السباعية والمتصاعدة من حيث الصعوبة والمضامين؛ انعكاسًا للحاجةِ الملحة والظرفية السوسيو-ثقافية التي كانت باعثًا موازيًا لكتابة عملين يتوجهان، في المقامِ الأوَّل، إلى فئة المتعلمين غير المتخصصين، أو محدودي التعليم في سياقِه – الصبيان، والنساء، والبنات. ولئن كان كل من متني الحفيدة والمفيدة قد أوفيا بهذا الغرض اعتبارًا لطبيعة سهولتيهما واختصارهما الجيدين؛ فإنهما رفعا ستارَ واقعِ الحاجة الملحَّة لتعليمٍ منْ لا يقدرون على استيعاب أفكار الأشعريّة بكل أبعادها الدقيقة في تلك الحقبة على الأقل؛ بسبب محدودية تعليم فئاتٍ من الناس، لاسيما النساء، لظروفٍ وسياقاتٍ ثقافية وجندرية واقتصادية بل وفيزيولوجية أحيانًا —كما تحدثنا بعض المصادر—.

أحصى محقق شرح أبي حامد للعقيدة الحفيدةِ، كغيره من الباحثين المحدَثينَ، جملةً من الشروح المعمولة، والموجودة حاليا، عليها والتي بلغت خمسة شروح دون هذا الشرح (ص. 9، 10)، ولعل أهمها تفسيرها المسمَّى بـالتّحفة المفيدة لأبي مهديّ عيسى السُّكتانيّ المراكشيّ (ت. 1062 هـ/1651م) الدقيق والمبسوط نسبيًّا (تح نزار حمَّادي. الكويت: دار الضياء، 2012). وفيما يبدو فقد نُسجَ هذا شرح أو «تعليق» من قِبل أبي حامد استجابة لغرضٍ تعليميّ بنحوٍ عام، واستجابة لدعوةِ أحدِ الطلبةِ خصوصًا. ولئنْ كنا لا نستطيعُ، بصورة دقيقة، تحديدَ طبيعة مستوى الطلبة الذينَ اتجه الـ«تعليق» إليهم؛ فإنَّا قد نخلص، بوساطة أمورٍ وقرائن بادية، إلى كونهم فئةً مقبلة على التعليم الديني العالي والمتخصص (ص. 23). فأبو حامد الفاسي شغل التدريس والإفتاء والخطابة بجامع القرويين، أحد المدارس العليا في الحقب التاريخية للغرب الإسلاميّ (ص. 15)، كما انشغل بالتأليف المدرسي التعليمي من خلال خطّ أعمال متعددة المجالاتِ والأجناسِ المعرفية؛ مؤلِّفًا في علم الحَديث، وعلمِ النظريات الفقهيّة، والمنطق؛ لكنه، بحسب بعض المترجمين، كان عالما بارزًا ومتخصصا في علم الكلام؛ بل يذهب بعضهم، إيغالاً في التوصيفِ لربمَا، إلى نعتِه بأنَّه  كانَ «أعلم بفن الكلام من الإمام السنوسي»! (ص. 14، 15).

لقد كان الشرح، كما قلنا، بيانًا مركزًا جدّا للعقيدة الحفيدة (المنشورة في: ص. 19-20) امتزجت فيه «العقيدة الحفيدة» بـ«تعليق» أبي حامد امتزاجًا «في غاية الاختصار» (ص. 23). فلم يسترسل الشارح أبو حامد في توضيح وتفسير الإمكانات الدلالية التي تنطوي تحتها ألفاظ الحفيدة إلا بقدرٍ يسير جدًّا «يجانس اختصارها» قصد إفادتها زيادةَ توضيحٍ؛ إذ استحالت صفحتا الحفيدة المشروحة تفكيكًا بنيويًّا ممزوجًا في صفحات محدودة ومطولة بالنسبة للمتن (ضمن: ص. 23-39). ولئن كان الأصل موجها نحو فئة محددة سلفًا، كما قلنا قبلُ، فإن الشرح يظهر مستويات من التركيز والدقة لا يمكن أن تكون فئةُ محدودي التعليم معنيةً بها بقدر تلك التي اختارت التوجه نحو الدراسات العليا للمعارف الدينية الإسلامية؛ أي أولئك الذين مالوا إلى ولوجِ أنماط التعليم المعمق للعلوم الإسلامية والعقلية التقليدية وفق التقاليد الوسيطةِ كما كان شائعًا فيما بعد القرن الخامس عشر الميلاديّ. ولعل هذا العمل التفكيكي والتفسيري يروم، إلى ذلك كلِّه، أن يكون مقرّرا مدخليا إلى علم الكلام السنيّ الأشعري في صورته المستقرة والمستوحاة من الأنساق المختارة، بعناية فائقةٍ، من أبي عبد الله السنوسيّ، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال قراءَة نوعية التعريفات الفنية الدقيقة والأدلة المنطقية القياسية المطوية التي تفتقِر إلى شرحٍ وظيفيّ لا يمكنُ أن يضطلع به إلا أستاذ مدرِّس عارف (ص. 30-35).

بعد خطبة الكتاب، التي لم يبد فيها الشارح معطيات ذات بال إلا تلك المتعلقة بحجم الشرح وبواعثه البادية (ص. 23، 24)؛ يبدأ المؤلف بقسم اصطلاحيّ شبيه بذاك الذي في عمل السنوسي المتوسط أم البراهين، وهاهنا؛ يعرِّف أبو حامد جملة من الصفات الإلهية وبعض المصطلحات الأنطولوجية، في قسم «الإلهيات» (ص. 25-35) وفق بناءٍ مفاهيمي مركب ومسيج ومنسّقٍ، يرجعُ إلى أقسام الواجبات والممكناتِ والمستحيلات العقلية في حق الذات الإلهية؛ كالوجود والقدم والإرادة والعلم؛ مقابل العدم والكراهة والجهل ... (ص. 25-30)؛ لكنه، في مقابل ذلك يتجنب تعريف بعض المصطلحات الرأسية كـ: الصفة النفسية، والصفة السلبية. وهو التنسيق التفسيري نفسه الذِي حذا حذوهُ المؤلف في القسم الثاني المخصّص لـ«النبوات» لكن بصورة ضاربة في الاختصار (ص. 36-39).

هناك حقيقة ميتافيزيقية يطلعنَا عليها العقلُ دائمًا من خلال نموذج الأدلّة والبراهين القياسية التِي تنحل إلى صورٍ استثنائيّة من قبيل: لو كانَ أ لكان ب لكن لا أ إذن لا ب أو لو لم يكن أ لكان ب أو لو كان لا أ لكان ب/لا ب ... وهكذَا؛ يمكننَا أن ننفذ بواسطةِ عددٍ من المفاهيم المحددة سلفًا (ص. 25-30) والقضايا المبرهن عليها إلى جملة من الصفاتِ «المستحيلةِ» عقلا بالنسبة لطبيعَة الله، وذلك من خلال أدلة «صفاتٍ» أخرى «واجبة» أو «ممكنة» عقلا لذاتِه المتعالية؛ فإذَا كان الله موصوفًا بـ«الوجود» بدليلِ «حدوثِ العالم» (في نشرة نزار حمادي للمتن والشرح، 2013: «والدليل على وجوده تعالى: وجود العالم» انظر: ص. 19؛ 30. وفي: زَهري، 2012: ص. 131: «والدليل على وجوده تعالى: حدوث العالم») ووجودِه بعد أن كانَ معدومًا —وهي قضية مبرهن على صحتِها— فإنّ الله يوصف بالإرادة لكونِه قد اختارَ بـ«تخصيص» الوجودِ بدًلا عن العَدم المستمرّ في الأزلِ، ومن ثمة نستنتج كونَه قادِرًا بـ«إيجاده» المخصَّص البدليّ، وقبل هذين يوصف بأنه عالمٌ بالمُرادِ والمقدورِ لكونِه دائمَ العلم (ص. 27؛ 30؛ 33، 34). وغير خافٍ، إذن، أن الميتافيزيقا الأشعرية التِي تحملُ تصورًا عقلانيًّا لطبيعة صفات الله —كما هي رؤية الكلاميّة عمومًا— قد سيّجت في تفسير أبي حامد العربيّ ومتن أبي عبد الله السنوسيّ بنسقٍ استدلاليّ متكاملٍ ومتداعٍ، مبنيّ وفق الأحكام العقلية التِي لا تقبل الـ«انقلاب» لكونِها مجردةً مطلقةً وموضوعية وغيرَ خاضعةٍ للتنسِيب.

وأيًّا كانْ؛ فقد بقيت هذه المفاهيم وطريقة بسطها مدينتين، تماما، لفكر أبي عبد الله السنوسي واختياراته الدلالية المنطوية تحت الأمرين، كما بقي نص أبي حامد متابِعًا للسنوسيّ فيما يخصّ «أدلة» القسمين التي لم يكن ينسجها بطريقة سهلةٍ وواضحة تمامًا للقرَّاء في كل مرة؛ بل لربما يمكنُ القول بأنّه زاد عمل السنوسي غموضًا من خلال عرض المفاهيم والأدلة القياسية التي تنطوي تحتها مقدمات واستدلالات أخرى ذات تفصيلاتٍ متنوعة وفقَ تجريد عارٍ عن أيّ شروحٍ وتفسيراتٍ قريبة وواضحة (ص. 30-35؛ 37، 38)، وهذا، في تقديرنَا المتواضع، من شأنِه تأكيد فرضية توجهِ كُتيّب أبي حامد، في صورة تعليميّة، إلى الطلبة المقبلين، لاحقا، على تعميق دراسَتهم لعلم الكلام من خلال جعل هذا العمل مقَرَّرا مدرسيًّا ومدخليّا يستعين به الشيخ أو الأستاذ المدرِّس في تنظيم أفكار الطلبة وترسيخ استيعاب مضامين الأشعرية في شقيها المفهوميّ والحجاجيّ، مع مراعاةِ الاستفادة ما أمكن من دينامية الاختصار ومرونته الكبيرة، فضلا عن نوعيّة العرض المتسلسل الشبيه بالتشجير؛ وكلها أمور من شأنها، ما منْ شك، تذليل عملية استظهار وحفظ النصّ كما جرت العادة في أنماط التعليم الإسلاميّ التقليديّ.

----

محمد الراضي،

باحث مستقلّ في تاريخي علم الكلام والفكر الإسلاميّ الوسيط.

قسم مراجعات وقراءاتٌ في الكتب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أوراق أشعرية 3: تعليق على نشرة لمَع أبي الحسن الأشعريّ لـ أ.د حسَن الشافعي

أوراق_أشعرية 5: عن المباحث العقلية في شرح معاني البرهانية

أوراق أشعرية 4: في محاولةِ رفعِ ’’قلـقِ‘‘ عبارة حولَ كسب الأشاعرة